◄يستهدف الإسلام في دعوته – كرسالة إلهية خالدة – اصلاح البشرية، وحفظ نظام الحياة من خلال الغاية النهائية لرسالة الدين التي تنصب على توحيد الله وتعبيد الإنسان له... لذلك فإنّ رسالة الإسلام أخذت على عاتقها مسؤولية النهوض بدور البناء الحضاري، واشادة نظام الحياة... منطلقة من مبدأ تحرير الإنسان من عبوديّة الطواغيت والأهواء، وتحقيق العبودية لله.
وبامكان المتتّبع لمقاصد الشريعة وأهدافها في الحياة أن يوجز أهم الأهداف والمقاصد الرئيسية بما يلي:
1- توثيق الصلة بين الإنسان وخالقه:
تستهدف الرسالة الإسلامية توثيق الصلة بين الإنسان وخالقه، وتعريفه بربه وبالمسؤولية تجاهه. وغير خاف أن معرفة الإنسان بخالفه، وتنظيم العلاقة البشرية به، هي أخطر حقيقة في حياة الإنسان، وأبعدها أثراً في مصيره، لأن معرفة الله سبحانه والارتباط به، معناه معرفة الحق والخير والسلام، وبناء الحياة وتنظيمها على هدى من تلك المبادئ، وعلى وضوح من نورها لتمكن الإنسان من شق طريق الأمان الرائد في مسيرة الوصول إلى الله، وتأمين مصيره يوم الرجوع إلى عالم الخلود والبقاء.
2- الحفاظ على نظام الحياة:
تستهدف الرسالة الإسلامية حفظ نظام الحياة، وتحقيق إنسانية الإنسان، وحمايته من كلّ خطر يهدم إنسانيته، أو يمسها بسوء، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...) (الأعراف/ 157).
فتلك هي أهداف الإسلام الرسالية، قد أوجزها القرآن في محاربة الفساد والرذيلة، وتحديد منهج التشريع والقانون الذي يُبيّن طريق الحياة، ويحفظ الأمن والنظام، ويُحرّر الإنسان من أغلال العبوديّة البشريّة، ويُنقذه من ظلمات الذنوب والآثام...
وما أروع تعبير القرآن الحكيم عن هذه الحقيقة وتصويره لها وهو يخاطب المسلمين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24).
وثمّة دقيقة فكرية رائعة في هذا النّص القرآني يجب الالتفات إليها والتأمّل بها، وهي:
انّ القرآن لا يرى الحياة مجموعة من الفعاليات والنشاطات العضوية التي تمارسها أجهزة الجسم وأعضاء الجسد.... بل الحياة في نظره صيغة تتشكل من غايات ومواقف إنسانيّة عليا ترتفع بالإنسان إلى مصاف الكمال البشري، وتأخذه بيده إلى حيث يصنع إنسانيّته ويعبر عن محتواه الإنساني الطبيعي.
لذلك تعهّدت دعوة الإسلام ومنهجه الذي يخاطب به البشرية بتحديد الخطوط التشريعية والمنهجية المتكاملة التي ترسم صورة الحياة، وتُخطّط أبعادها على هدى من مفاهيم العدل والخير لهذا الإنسان.
ولقد كان قول الرسول المنقذ (ص) خير معبر عن هذه الأهداف، وأفصح ناطق بها.
"ما جاء أحد أمّته بخير مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة".
وعلى هدى هذه المفاهيم المصدرية صيغت القواعد التشريعية الكبرى لتجسّد روح الإسلام وتركّز أهدافه السامية في الحياة... كقاعدة: "جاء الإسلام لجلب المصالح ودرء المفاسد"، و "جاء الإسلام لحفظ الحقوق"... إلخ.
3- تنمية الوعي والارتباط الكوني:
يستهدف الإسلام احداث التوافق والانسجام بين الإنسان والعالم من حوله، ليشعره بأنّه جزءٌ من هذا الوجود، وله مكانه الطبيعي فيه، لينمي في نفسه الوعي الكوني العام، وليكشف له الحكمة والغاية الكبرى من وجوده؛ فيرتبط بها ويعي الحياة من خلالها، بعد أن يكشف له وحدة المنطق العقلي العام الذي ينتظم الطبيعة والمجتمع والحياة... ليدرك من خلال ذلك الوعي الكوني العام أن وجوده جزءٌ من هذا العالم الدقيق المتقن الذي لا عبث فيه ولا ضياع، وهو وجود مرتبط بغاية سامية؛ وهي التوجّه إلى الله خالق الكون العظيم، والرجوع إليه، فمع هذا الإحساس تختفي من حياة الإنسان مظاهر السخط والتبرّم والغربة والضياع المدمّر في هذا العالم.
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون/ 115-116).
4- الاعمار والبناء الحضاري:
يستهدف الإسلام تمكين الإنسان من أداء رسالته في اعمار الأرض واصلاحها، وبناء الحضارة الإنسانية، وانماء الحياة بالعلم والعمل والعمران.
... فالإنسان خلق على هذه الأرض ليجسّد إرادة الله وحكمته في الخليقة الأرضيّة... وهي الاصلاح والإحياء، وصنع عالم الخير والنعيم على هذه الأرض.
ولقد فسّر القرآن الحكيم مهمّة الإنسان هذه على لسان النبيّ صالح (ع) حين قال:
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود/ 61).
وقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165).
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56).
ولحماية هذه المهمّات العمرانيّة والاصلاحيّة التي دُعي الإنسان لإنجازها على هذه الأرض حمل القرآن بشدّة على المخرّبين والمفسدين، وتوعدهم بالعقاب والعذاب:
فقال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 205).
وهكذا يفصح القرآن عن الدّور الحضاري والعمراني للإنسان، ويحدّد مسؤوليّته الحياتيّة على سطح هذه الأرض... وهي إعمار الأرض واستثمار خيراتها وملئها بالعلم والعمل الصالح وتوظيف طاقات الإنسان جميعها في مجال الخير والبناء.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق